عالم ما بعد كورونا
د. عبد الرحمن الجاموس
دكتوراه في إستراتيجيات الأعمال
من منظور بانورامي، بدأ المنظرون يبحثون عن ملامح العالم الجديد، حيث ستلمع دول ويخفت وميض دول أخرى، لهذا طلب بعض ساسة الغرب من كبريات الشركات المهاجرة وخصوصاً الطبية منها العودة الى موطنها، ولأسباب كثيرة لم يكن أولها تداعيات الاحداث المتسارعة في ظل كورونا، بل نتيجة لأسباب أخرى قبل كورونا بكثير حيث لم تكن الدول الصناعية بوضع أفضل على أية حال.
لهذه الاسباب وغيرها ستتغير مواقع الدول في سلاسل التوريد العالمية ولن تتوقف التجارة العالمية على الصين وغيرها كما درجت العادة، وسلاسل التوريد هي شبكة من التجار، والموزعين، والناقلين، ومرافق التخزين، والموردين الذين يشاركون في إنتاج، وتجميع، وتسليم، وبيع المنتجات.
الجديد في الأمر، ان دولاً عدة ستكون مخولة - بشروط - لدخول سلاسل التوريد هذه أكثر من غيرها، وذلك لاعتبارات سياسية واقتصادية وقبلهما ديموغرافية، مثلاً ينظر البعض بتفاؤل لأحقية كل من مصر وتركيا في العالم الجديد، لامتلاكهما سمات تخولهما ايجاد موطئ قدم في مرحلة اعادة التموضع المذكوره أعلاه.
فمثلاً عن أحقية تركيا، كما نعرف يرغب الرئيس الامريكي ترامب في نقل أو إعادة المكونات الخاصة بالصناعات الطبية الى امريكا (كما فعل ذلك سابقاً مع كبريات شركات التكنولوجيا) ولضيق الوقت يتوقع ان تقوم شركتي فورد وجنرال الكترك الامريكية التي كُلفت مؤخراً وفق قانون الانتاج الدفاعي بانتاج المعدات الطبية مع امكانية ادخال تركيا في المعادلة واستيراد بعض المكونات منها لانخفاض تكلفة انتاجها، وقد ابلغت تركيا مؤخراً امريكا في اتصال هاتفي بين الرئيسين بانها ستعدل القانون المؤقت الذي يمنع تصدير المعدات الطبية، هذا يدل على دخول تركيا مبكراً في التموضع الجديد في مجال الصناعت الطبية بعد ان كثفت سعيها في اطار "دبلوماسية المساعدات الطبية"، كما أن لتركيا باع جيد في عدة صناعات اخرى كالالكترونيات والاغذية والالبسة وغيرها يخولها دخول التموضع الجديد اذا ما عملت على بلورة سياساتها الخارجية بشكل أكثر كفاءة وذكاء، وهذا يستلزم ايضاً صياغة تحلفاتها بشكل عابر للخلافات السياسية من خلال استراتيجية بعيدة عن التجاذبات السياسة الداخلية والاقليمية.
مصر بدورها مخولة لدخول صناعات أخرى تعتمد على كثافة العمل كالنسيج والغاز والزراعة وغيرها، الا ان هذا يحتاج لتغيير مبرمج لمنظومة العمل الحالية، واستبدال طرق التعاطي مع الاحداث داخلياً وخارجياً، في السياسة خصوصاً، فمصر من الدول كثيفة اليد العاملة منخفضة التكلفة والتي تمثل رافعة كبيرة للاقتصاد المصري اذا ما تم استثمارها بشكل أمثل، لتستعيد مصر خساراتها في هذا المجال، حيث حصلت تلك الخسارات في غفلة الصراع السياسي الداخلي لصالح بعض الدول الافريقية التي ابتلعت مزايا اللوجستيك الافريقي.
بينما يمكن لدول الخليج ايضاً النجاح في دخول العالم الجديد اذا ما اهتمت بتشكيل العناقيد الصناعية في ظل استراتيجية طاقة موحدة في جانب النفط والغاز والبتروكيماويات، وهذا يتطلب منها اعادة الثقة بين دولها، كما يمكن لدول الخليج ايضاً ان تكون مركز تجميع لوجستي اذا ما تم تأطير المنافسة اللوجستية المحمومة بين هذه الدول، وربما لعُمان سمة فريدة قد تساعدها في انجاز مشاريعها في اطار استراتيجيتها اللوجستية المحلية لتكون نواة الثقل اللوجستي الخليجي.
يمكن لبعض الدول العربية الأخرى كالسودان وتونس والمغرب ولبنان وسوريا وغيرها الدخول في سلاسل الامداد الغذائية كصناعة متكاملة لكن هذا يحتاج مزيداً من الاسقرار السياسي المفقود فضلاً عن الارادة الجامعة للقضاء على منظومات الفساد.
اخيراً، لقد سبقت دول اسيا الجميع منذ عقود، واخذت حصة كبيرة في قطاعات عدة منها صناعة الالكترونيات وتقنيات التكنولوجيا العالية وصناعة السيارات وغيرها، والان بعد ان بدأت الفرصة تلوح في الأفق لدول اخرى كالدول العربية ودول البلقان سيبقى كل ما تم ذكره سابقاً مجرد أحلام، ما لم تتوفر قناعة العمل والتحالف وتصفير المشاكل لان النجاح للأميّز.
باعتبار ان الفرص قد لا تأتي الا بعد مئة عام فالسؤال الآن هل ستضيع الفرصة مرة اخرى أم ستتلقفها دول اخرى تعمل في هدوء بعيداً عن الأضواء؟ هو سؤال سنجد الاجابة عليه في السنوات القادمة عندما يخف الضجيج عندها ستخفت اضواء بعض الدول وتلمع دول اخرى لم نكن يوماً نحسب لها حساب، ولننتظر فكما يُقال عند انحسار الموج سيظهر الامبراطور عارياً!